المادة    
وهنا نقف قليلاً عند الجعد بن درهم، الذي هو أشهر من نسبت إليه المقالة السابقة، فـالجعد بن درهم تلقى هذه النظريات الباطلة عن فلاسفة الصابئين و -خاصة أهل حران - وهم قوم يعبدون الكواكب ويسمون الفلاسفة الروحانيين، ويدّعون أنهم روحانيون، وهؤلاء مذهبهم على مذهب قدماء اليونان -أيضاً- في إنكار الصفات، ولهم عقائد باطلة كثيرة، فتلقى الجعد بن درهم عن هؤلاء الصابئين من أهل حران ومن غيرهم هذه العقيدة الفاسدة، ومنه تلقى الجهم، مع أن الجهم -كما سنوضحه إن شاء الله- أخذ عن السمينية وهم طائفة من فلاسفة الهنود.
فـالجعد بن درهم كان شؤماً، وهكذا كل أهل البدع كانوا شؤماً على أممهم وعلى دولهم، فمن شؤم الجعد بن درهم أنه كان مؤدباً لـمروان بن محمد الذي يسمى مروان الحمار آخر خلفاء بني أمية، وسمي الحمار لكثرة المصائب والبلايا التي تحملها، وذلك من تساقط الأقاليم والمدن في أيدي العدو؛ لأنه جاء وقت ضعف الدولة وكان نهاية دولة بني أمية في عهده، فالمقصود أننا لو نظرنا إلى الأمم المكذبة لدعوات الرسل، نجد أنهم: يتطيرون برسل الله سبحانه وتعالى، ويتطيرون بدعوة الحق والخير والهدى، ويظنون أن الخير والبركة فيما هم عليه من الضلالات، والواقع أنهم بعكس ذلك، فطائرهم معهم وشؤمهم من أنفسهم، أما دعوة التوحيد والإيمان، فهي يمن وخير وبركة على من آمن بها، وناصرها وأيدها واعتقدها في قديم الدهر وفي حديثه.
فما اتبع قوم دعوة التوحيد والسنة إلا أبدلهم الله تبارك وتعالى بعد الفقر غنى، وبعد الذل عزة، وبعد التشتت تمكيناً واستقراراً، هذه قاعدة معروفة في التاريخ كله قديمه وحديثه، وبالعكس من ذلك: ما تبنت دولة من الدول مذهب أهل الضلال والبدع، إلا طوق بها، ومزقها الله تبارك وتعالى شر ممزق، فكانت دولة بني أمية على أقوى ما تكون، وكان شتاتها على يد الضال الجعد بن درهم وبشؤمه، وكذلك دولة بني العباس تزعزعت أركانها بسبب شؤم المعتصم الذي عذب الإمام أحمد وضربه وجلده، ففي عهد المعتصم بدأ استخدام الترك واعتماد الدولة بالكلية عليهم، فلما استبدوا بالأمر وأصبحت القوة -مع مرور الوقت- بأيديهم، كانوا يأتون بالخليفة فيسملون عينيه، أي: يدقون في كل عين من عينيه المسامير، ويعزلونه ويأتون بخليفة آخر فينصبونه كما يشاءون، بل بعض خلفاء بني العباس لم تستمر خلافته إلا يوماً وليلة فقط، منهم الشاعر المشهور عبد الله بن المعتز صاحب الشعر؛ لأنه لم يعجب أولئك الأجناد المتسلطين، الذين كانوا جنوداً للمعتصم عندما قبض على الإمام أحمد وعذبه وآذاه، فنجد أهل البدع وأهل الضلال وجند الشر وجند الخرافة شؤماً على دولهم وعلى أممهم، فهذا الجعد بن درهم كان هذا حاله في عهد الدولة الأموية.
  1. مقتل الجعد بن درهم على يد خالد القسري

    يقول رحمه الله: [وكان أول من ابتدع هذا في الإسلام هو الجعد بن درهم ] يعني أول من أظهره ممن ينتمي إلى الإسلام، وإلا فهو مذهب موجود من قبل أخذه عن أولئك الصابئين الفلاسفة.
    قوله: [في أوائل المائة الثانية، فضحى به خالد بن عبد الله القسري أمير العراق والمشرق بـواسطخالد بن عبد الله القسري كان من أمراء بني أمية على العراق وعلى المشرق، وبلغته هذه الدعوة وهذا المذهب الخبيث، الذي قال به الجعد بن درهم ولم يسبقه إليه أحد من أهل الإسلام، فأحضره فأقر بذلك، وأبى إلا أن يموت عليه، نسأل الله العفو والعافية، وكان خالد رجلاً حازماً شديداً قوياً، فأخذه و[خطب الناس يوم الأضحى فقال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بـالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، ثم نزل فذبحه].
    وأخبار خالد بن عبد الله القسري مشهورة في كتب السير والتواريخ، وكان لجده صحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصله يرجع إلى إحدى قبائل هذيل المعروفة، فكانت تلك حسنة وهدية عظمى، وفضيلة كبرى لهذا الرجل، حفظها له علماء الإسلام من المؤرخين والعلماء، وكل من تحدث في الفرق ونشأتها، فهي مأثرة ومنقبة ومحمدة لهذا الأمير؛ وذلك بما فعل بذلك الملحد في أسماء الله تعالى وصفاته هذه الفعلة وهو يستحقها، وقد شكره عليها كل العلماء بغض النظر عن من أفتاه بأن يفعل ذلك؟! وكل من بلغه ذلك من التابعين فرح واستبشر، ولم ينقل قط عن أحد من علماء المسلمين أو قضاتهم في ذلك الزمن إلا الفرح والسرور بالقضاء على هذا الضال، الذي أنكر ما صرح الله تبارك وتعالى به في القرآن.
    يقول هذا الملحد: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، والله تعالى يقول: ((وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا))[النساء:125] ويقول -أيضاً-: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، والله تعالى يقول: ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا))[النساء:164] لا يمكن أن يسمع بمقتله مسلم إلا ويفرح ويدعو لمن فعل هذه المأثرة والمنقبة غفر الله لنا وله.
    ثم يقول: [وكان ذلك بفتوى أهل زمانه من علماء التابعين رضي الله عنهم، فجزاه الله عن الدين وأهله خيراً].
  2. الجهم بن صفوان يتابع الجعد بن درهم في ضلالاته

    قال: [وأخذ هذا المذهب عن الجعد الجهم بن صفوان، فأظهره وناظر عليه، وإليه أضيف قول الجهمية ] والجهمية: علم مشهور يطلق على منكري صفات الله سبحانه وتعالى، وعلى القائلين أيضاً: بأن الإيمان هو مجرد المعرفة، فبمجرد أن الإنسان يعرف الله فهو مؤمن عندهم، وعلى الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان كالريشة في مهب الريح، لا إرادة له ولا اختيار، أرأيتم كيف جمع الجهم بين هذه المصائب الثلاث، وكل واحدة منها كافية في أن يعاقب بما عاقبته به الأمة الإسلامية، من ذكره بأسوأ الذكر في كل كتب تواريخها وسيرها وأعلامها ورجالها، فضلاً عما عوقب به من القتل في عصره. فهو يقول: إن الله تعالى لا يوصف بشيء، ويقول: إن الإيمان هو المعرفة، ويقول: إن العبد مجبور على أفعاله، لا إرادة له ولا اختيار، بل هو كالريشة في مهب الريح. وكل واحدة من هذه تستحق أن يعاقب صاحبها إذا أصر عليها بمثل العقوبة التي عوقب بها الجهم .
    والجهم ترجم له وذكر شأنه كثير من العلماء، ومن أجلهم وأقدمهم الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتابه خلق أفعال العباد، ذكر نبذاً من ذلك عن الأئمة الذين تكلموا في الجهم .
  3. تناظر الجهم وتشككه في دينه السمنية

    وهناك طائفة موجودة في الهند ومثل فكرتها أيضاً في الفكر اليوناني، يقولون: لا نؤمن إلا بالمحسوس المشاهد الذي يراه الإنسان بعينه، ويلمسه بيده ويسمعه بإذنه، ويشمه بأنفه، هذا المحسوس نؤمن به، فما عدا ذلك ينكرونه بزعمهم، وفي الحقيقة لا يوجد إنسان ينكر كل شيء غاب عن هذه الحواس بهذا الشكل القاطع، لكن هكذا ظهرت، وهذا الضال المسكين -الجهم- لأنه أراد أن يتشبه بشيخه الجعد، وأراد أن يصبح فيلسوفاً أو حكيماً وأعرض عن الكتاب والسنة، وكان من أجهل الناس بالقرآن والسنة وأحكامهما، وكان من أبعد الناس عن العلماء وعن حلقاتهم، وهنا نأخذ العبرة والعظة من أين تأتي الضلالات؟!
    فالتقى بقوم من فلاسفة الهنود فلما قالوا: ما دينك؟ قال: مسلم. قالوا: من تعبد؟ قال: أعبد الله. قالوا: كيف ربك هذا؟ قال: ما أدري. قالوا: هل رأيته؟ قال: لا. قالوا: هل لمسته؟ قال: لا. قالوا: هل شممته؟ قال: لا. قالوا: هل سمعته؟ قال: لا. قالوا: هل ذقته؟ قال: لا. قالوا: إذاً: أنت يا جهم تؤمن بشيء لا وجود له، فشككوه في دينه، فانظروا إلى هذا المسكين، لا علم عنده ولا فقه، ولم يرد الأمر إلى أهل العلم، لأن الله يقول: ((فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ))[النحل:43] وهكذا تجد أي مسلم عنده شبهة وضلالة فإنما هو من مجالسة أهل البدع، ولهذا نعلم خطورة قول من يقول: يجب أن ننفتح على الفكر العالمي ونحن واثقون مطمئنون، ونقول: سبحان الله! أننفتح على الأفكار الهدامة والضلالات المردية، فيقع في القلوب من الشبه والشكوك ما الله به عليم؟!
    المهم أن الجهم قال: أمهلوني. فشك في دينه وبقي أربعين يوماً لا يصلي -كما ذكر ذلك الإمام أحمد رحمه الله نقلاً عن شيوخه- فظل يفكر بالليل والنهار كيف يجيبهم، فتذكر شيئاً قال: هذا الهواء ليس له طعم ولا لون ولا ريح، فخرج إليهم فقال: إن ربه مثل الريح، وقيل في بعض النسخ: إنه قال: مثل الروح ليس له طعم ولا لون ولا رائحة، بطبيعة الحال لن تؤمن السمينية بمثل هذا الكلام، ولكن الذي ضل هو هذا الرجل، ولذلك أخذ يؤصل لمذهب خبيث وهو أنه ليس لله تبارك وتعالى صفات، وأن تنزيه الله هو بنفي صفاته كما قال شيوخه من الفلاسفة، وحتى امرأته -كما نقل الإمام عثمان الدارمي رحمه الله في رده على بشر - تعلمت منه، ولقيها بعض من العلماء في سوق الدباغين، فسمعت رجلاً يقول: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] قالت: محدود على محدود؟! فعلّم زوجته وأفسدها، وهكذا دعاة الشر يفسدون نساءهم، ومع الأسف أن بعض دعاة الخير لا يصلحون أزواجهم.
  4. بشر المريسي وبرغوث يحملان راية البدعة بعد جهم

    تلقف هذه المقالة بعده وحمل الراية بشر بن غياث المريسي اليهودي، وذلك بعد هلاك الجهم فقد قتله والي بني أمية سلم بن أحوز، وعندما جيء به ليقتله وذلك لأنه قد كان شارك في ثورة قامت على الدولة الأموية، وكان الجهم كاتباً لقائد هذه الثورة فلما قضت الدولة الأموية على هذه الثورة، جاء والي الشرطة وقال لـجهم : والله يا جهم ! إنك لأحقر عندي من أن أقتلك على ما فعلت -أي: لا تظن أنني أقتلك لأنك شاركت من ثاروا على الخلافة، فالأمر أهون من ذلك -ولكن لما بلغني عنك. يعني انحرافك في العقيدة من إنكار الصفات فقتله، ونسأل الله تعالى أن يجعل ذلك في ميزان سلم بن أحوز وأن يثيبه، فقد أراح الأمة من شر عظيم، لكن جاء بشر المريسي ومن معه مثل برغوث، وما أدراك ما برغوث المعتزلي فرفعوا راية التجهم وإنكار الصفات.